الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وبهذا تبين أنّ الآية دالة على أن آيات الصدق ظهرت وأنّ المحجوجين أيقنوا بصدق موسى وأنه جاء بالحق.واعتذارهم عن ظهور الآيات بأنها سحر هو اعتذار المغلوب العديم الحجة الذي قهرته الحجة وبهره سلطان الحقّ، فلم يبق له منتشب من المعارضة المقبولة فهو يهرع إلى انتحال معارضات بمعاذير لا تدخل تحت التمحيص ولا تثبت في محكّ النقد ولابد للمغلوب من بارد العذر وإذ قد اشتهر بين الدّهماء من ذوي الأوهام أنّ السحر يظهر الشيء في صورة ضدّه، ادّعى هؤلاء أنّ ما ظهر من دلائل صدق موسى هو سحر ظهر به الباطل في صورة الحقّ بتخييل السحر.ومعنى إدّعاء الحقّ سحرًا أنّ دلائله من قبيل التخيلات والتمويهات، فكذلك مدلوله هو مدلول السحر وهو إنشاء تخيل باطل في نفوس المسحورين، وقد حملهم استشعارهم وَهَنَ معذرتهم على أن أبرزوا دعواهم في صورة الكلام المتثبّت صاحبُه فأكَّدوا الكلام بما دلّ عليه حرف التوكيد ولام الابتداء: {إنّ هذا لسحرٌ}، وزادوا ذلك ترويجًا بأن وصفوا السِّحر بكونه مُبينًا، أي شديدَ الوضوح.والمبين اسم فاعل من أبان القاصر، مرادف بَانَ: ظهر.والإشارة بقوله: {إنّ هذا} إلى ما هو مشاهد بينهم حين إظهار المعجزة مثل انقلاب العصا حية، وخروج اليد بيضاء، أي أنّ هذا العمل الذي تشاهدونه سحر مبين.وجملة: {قال موسى} مجاوبة منه عن كلامهم ففُصلت من العطف على الطريقة التي استخرجناها في حكاية الأقوال، كما تقدم في قوله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} [البقرة: 30]، ونظائره الكثيرة.تولى موسى وحده دون هارون مجادلتهم لأنه المباشر للدعوة أصالة، ولأن المعجزات ظهرت على يديه.واستفهام: {أتقولون} إنكاري.واللام في: {للحق} لام التعليل.وبعضهم يسميها لام البيان.وبعضهم يسميها لام المجاوزة بمعنى (عن).وجملة: {أسحر هذا} مستأنفة للتوبيخ والإنكار، أنكر موسى عليهم وصفهم الآيات الحق بأنها سحر.والإشارة تفيد التعريض بجهلهم وفساد قولهم، بأن الإشارة إلى تلك الآيات كافية في ظهور حقيقتها وأنها ليست من السحر في شيء.ولذلك كان مفعول: {أتقولون} محذوفًا لدلالة الكلام عليه وهو: {إنّ هذا لسحر مبين} فالتقدير: أتقولون هذا القول للحق لمَّا جاءكم.وقريب منه قوله تعالى: {قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قُلتم} [آل عمران: 183] وقوله: {بَيَّت طائفة منهم غير الذي تقول} [النساء: 81].ولما نفى موسى عن آيات الله أن تكون سحرًا ارتقى فأبان لهم فساد السحر وسوء عاقبة معالجيه تحقيرًا لهم، لأنهم كانوا ينوّهون بشأن السحر.فجملة: {ولا يفلح الساحرون} معطوفة على جملة: {أسحر هذا}.فالمعنى: هذا ليس بسحر وإنما أعلم أن الساحر لا يفلح، أي لو كان ساحرًا لما شنع حال الساحرين، إذ صاحب الصناعة لا يحقر صناعته لأنه لو رآها محقرة لما التزمها.{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)}الكلام على جملة: {قالوا أجئتنا} مثل الكلام على جملة: {قال موسى أتقولون} [يونس: 77].والاستفهام في: {أجئتنا} إنكاري، بنَوا إنكارهم على تخطئة موسى فيما جاء به، وعلى سوء ظنهم به وبهارون في الغاية التي يتطلبانها مما جاء به موسى.وإنما واجهوا موسى بالخطاب لما تقدم من أنه الذي باشر الدعوة وأظهر المعجزة، ثم أشركاه مع أخيه هارون في سوء ظنهم بهما في الغاية من عملهما.و: {تلْفِتَنَا} مضارع لَفَتَ من باب ضرَب متعديًا: إذا صرف وجهه عن النظر إلى شيء مقابل لوجهه.والفعل القاصر منه ليس إلا لا لمطاوعة.يقال: التفت.وهو هنا مستعمل مجازًا في التحويل عن العمل أو الاعتقاد إلى غيره تحويلًا لا يبقى بعده نظر إلى ما كان ينظره، فأصله استعارة تمثيلية ثم غلبت حتى صارت مساوية الحقيقة.وقد جمعت صلة: {ما وجدنا عليه آباءنا} كل الأحوال التي كان آباؤهم متلبسين بها.واختير التعبير بـ: {وَجدنا} لما فيه من الإشارة إلى أنهم نشأوا عليها وعقلوها، وذلك مما يكسبهم تعلقًا بها، وأنها كانت أحوال آبائهم وذلك مما يزيدهم تعلقًا بها تبعًا لمحبة آبائهم لأن محبة الشيء تقتضي محبة أحواله وملابساته.وفي ذلك إشارة إلى أنها عندهم صواب وحق لأنهم قد اقتدوا بآبائهم كما قال تعالى: {وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمَّة وإنَّا على آثارهم مقتدون} [الزخرف: 23].وقال عن قوم إبراهيم عليه السلام: {قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين} [الأنبياء: 53، 54]، وقد جاءهم موسى لقصد لفتهم عما وجدوا عليه آباءهم فكان ذلك محل الإنكار عندهم لأن تغيير ذلك يحسبونه إفسادًا: {قال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض} [الأعراف: 127].والإتيان بحرف (على) للدلالة على تمكن آبائهم من تلك الأحوال وملازمتهم لها.وعطف: {وتكون لكما الكبرياء} على الفعل المعلَّل به، والمعطوف هو العلة في المعنى لأنهم أرادوا أنهم تفطنوا لغرض موسى وهارون في مجيئهما إليهم بما جاءوا به، أي أنهما يحاولان نفعًا لأنفسهما لا صلاحًا للمدعوين، وذلك النفع هو الاستحواذ على سيادة مصر بالحيلة.والكبرياء: العظمة وإظهار التفوق على الناس.والأرض: هي المعهودة بينهم، وهي أرض مصر، كقوله: {يريد أن يخرجكم من أرضكم} [الأعراف: 110].ولما كانوا ظنوا تطلبهما للسيادة أتوا في خطاب موسى بضمير المثنى المخاطب لأن هارون كان حاضرًا فالتفتوا عن خطاب الواحد إلى خطاب الاثنين.وإنَّما شرّكوا هارون في هذا الظن من حيث إنه جاء مع موسى ولم يباشر الدعوة فظنوا أنه جاء معه لينال من سيادة أخيه حظًا لنفسه.وجملة: {وما نحن لكما بمؤمنين} عطف على جملة: {أجئتنا}.وهي في قوة النتيجة لتلك الجملة بما معها من العلة، أي لما تبين مقصدكما فما نحن لكما بمؤمنين.وتقديم: {لكما} على متعلَّقه لأن المخاطبين هما الأهم من جملة النفي لأن انتفاء إيمانهم في زعمهم كان لأجل موسى وهارون إذ توهموهما متطلبي نفع لأنفسهما.فالمراد من ضمير التثنية ذاتاهما باعتبار ما انطويا عليه من قصد إبطال دين آباء القبط والاستيلاء على سيادة بلادهم.وصيغت جملة: {وما نحن لكما بمؤمنين} اسمية دون أن يقولوا وما نؤمن لكُما لإفادة الثبات والدوام وأن انتفاء إيمانهم بهما متقرر متمكن لا طماعية لأحد في ضده. اهـ.
|